• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

قصة النبي نوح «ع» في القرآن

صفية عبدالمطلب

قصة النبي نوح «ع» في القرآن

جاء ذكر النبيّ نوح في القرآن في 28 سورة، توسّعت واحدة منهنّ في التوضيح واستيعاب القصّة أكثر وهي سورة هود، واختصرت أخرى كسورة النساء، وجاءت سورة كاملة باسمه تحدثت عن عنائه ودعوته وطريقه المستمر ودعائه على قومه بعد أن يئس منهم، بل علّمه منهم توريث الضلالة لغيرهم.

فكلّ سورة تحدّثت عن جهة من حياته ودعوته وجهاده.

وقد ذكر اسمه في القرآن في 43 موضعاً، واسمه مشتق من المناحة وقيل سمي بذلك لأنّه ناح على قومه كثيراً لما حصل لهم من العناد والاستكبار والاستخفاف إلى حين نزول العذاب بهم.

 

- أسماؤه في القرآن:

سماه الله: (الناصح أمين) (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ) (الأعراف/ 68).

والعبد الشكور: (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا) (الإسراء/ 3).

وسلّم الله عليه وباركه حيث قال: (سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ) (الصافات/ 79).

هو أوّل الرُّسل من أصحاب الرسالات والشرائع. وهو من الأنبياء أولي العزم كما في قوله تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى) (الشورى/ 13)، وقال تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا) (الأحزاب/ 7).

لقد كان الناس في بداية الخليفة يعبدون الله على الفطرة السليمة، فعمد الشيطان بأساليبه إلى الشرك بالله.

وبدأت عبادة الأوثان التي نشأت بصنع التماثيل لأموات صالحين في زمانهم تخليداً لذكراهم، ثمّ تطوّرت هذه العلاقة فأصبحت عبادة وتمسك، وقد ساعد في تنمية هذه الأمور الشاذة الكبراء الذين يريدون السيطرة على الناس. وجاء في كُتُب التفسير "إنّ تاريخ ابتداءً عبادة الأوثان بدأ في زمان (انوش بن شيث بن آدم). وهكذا اشتدت هذه العبادة وتطوّرت ووصلت الذروة في زمان نوح، وصار لها أسماء تعرف بها: (يغوث، ويعوق، ونسراً)، قال تعالى: (وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا) (نوح/ 23)".

واستمرت هذه العبادة إلى العصر الجاهلي، وتطوّرت واتخذت كلّ قبيلة صنماً لها تعبده، ثمّ اتّسعت ووُلدت أصناماً آخر (كهبل، واللات، والعزى، ونائلة، واساف)، ووضعت في بيت الله في جميع أركانه وكلّ قبيلة لها صنمها المفضل الذي تعتقد أنّه يقضي حاجاتها.

بدأ نوح دعوته إلى عبادة الله الواحد، ونبذ الآلهة الزائفة، إلّا أنّ الكبراء لم يستجيبوا لهذه الدعوة ولم يؤمنوا بها، والذين آمنوا بها واهتدوا بنورها هم الضعفاء والمحرومون الذين يلاقون صنوف الأذى من ولاتهم وحكامهم دائماً، والمحرومون هؤلاء هم من يحاول أن يأخذ حقّه من غاصبيه ومانعيه فهم يكدحون ليل نهار من أجل سعادة غيرهم.

حذر نوح قومه من مغبة ما هم فيه من ضلال وانحراف فكان جوابهم بتعنت وصلافة واستحقار: - ما نراك إلّا بشراً مثلنا (مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأنْزَلَ مَلائِكَةً) (المؤمنون/ 24)، وكأنّ الله لابدّ أن يبعث ملكاً لهداية الناس.

(إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ) (المؤمنون/ 25).

الذين اتبعوه هم من الأراذل والفقراء: (وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ) (هود/ 27).

اتهموه بالجنون: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ) (القمر/ 9)، وهذا هو دين الأُمم الضالة (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) (الذاريات/ 52).

وهذه هي سنّة الكبراء من البشر، وقد قالوا لرسول الله (ص): اطرد هؤلاء الذين اجتمعوا حولك من الضعفاء حتى يمكننا الجلوس معك والاستماع إلى حديثك، وقد قال سبحانه مجيباً على طرحهم هذا: (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) (الأنعام/ 52).

وهكذا نلاحظ إشكالاتهم الوضيعة التي لا تقوم على المنطق بل على الاستعلاء والتمييز الطبقي، والقرآن وضع الميزان لسمو الإنسان وكماله ودرجته وهي تقواه لله سبحانه وهؤلاء هم الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ثمّ إنّ حسابهم ليس على أحد بل هو على الله سبحانه وهو مَن يقيّم الأمور.

لقد أجاب الأشراف منهم: أنت بشر والذين اتبعوك هم أراذل ضعاف فقراء ليس لهم رأي حصيف، وما لك علينا أدنى فضل حتى نسمع كلامك ونطيعك فيما تأمر.

وهكذا بدأت سنّة التكذيب والاستعلاء والاتهام.

فيجيب النبيّ المُرسل: إنّه لا يطلب أجراً مقابل ما يأمر به، فلم لا يستجيبون لدعوته وهي بالمجان، وإنّ الأجر الذي يبغيه هو من الله فقط، فلماذا يتكبرون في وجهه، ولا يرغبون في طاعته، ثمّ كيف يطرد أُناساً من خلق الله وقد اتبعوه وأطاعوه، وهؤلاء لابدّ لهم من اللقاء بربّهم فيشكونه ممن طردهم وأساء إليهم لا لذنب اجترحوه، بل لأنّهم ضعاف. ثمّ إنّ لهم أعمالاً سيجزون عليها ويثابون.

ثمّ مَن سيحميه من الله إذا قام بطرد أُناس لا ذنب لهم سوى إنّهم ضعفاء فقراء.

وبديهي أنّ مَن يطلب الإنصاف والعدل هو مَن تعرّض للظلم والاضطهاد، ولذلك عندما يأتي الرسول المنقذ يلتف حوله المغلوبون الذي لا ناصر لهم من الغالبين، وقد جاء نوح والفساد قد طغى.

ثمّ يقول لهم أنا لا أملك المال ولا أعلم الغيب وما سيكون، ولا أتحدث عن هؤلاء الذين لا ترغبون برؤيتهم وتنظرون إليهم بنظر الاستخفاف والاستهزاء، وكأنّهم خلقوا من غير شيء، والله سبحانه هو أعلم بسرائر عباده، وهو من سيجازيهم على أعمالهم صغيرها وكبيرها.

وبديهي أنّ المستكبرين في أي زمان يريدون مَن يستغلونهم ويخدمونهم فكيف يمكنهم إعطاء كلّ هذا التنازل لشخص يريد سلب راحتهم وهنائهم.

إلّا أنّ هؤلاء ليسوا بمستوى أن يستجيبوا لنداء الحقّ وهم بنوا بنيانهم على باطل، وكيف يدعون مَن بنى بنيانه على تقوى الله أن ينتصر وأن يستجيبوا لدعوة مَن يريد النهوض بالفقراء وانتشالهم من محنتهم.

والظالم يعرف نفسه، فهو على نفسه بصيرة، ولا يمكنه أن يحاور أو يستمع لنداء الحقّ المعلن بدعوة الأنبياء، فليس لديهم كلام منطقي يقولونه إلّا هذا الكلام البذيء الذي لا يحمل أي معنى غير معنى الاستعلاء والاستكبار.

والآية من سورة هود تبيّن مدى عناء النبيّ في دعوته، ومدى آذاه ومعاناته فيقولون له: (يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (هود/ 32).

عليك السكوت ولقد أكثرت الكلام، ألم تهدّدنا بالعذاب من ربّك فهاته إذن وارحنا وارح نفسك، وهذا ما يكرره في كلّ زمان ومكان الظلمة والبغاة والكفار، (فأتنا بما تِعِدُنا) (إنْ كُنتَ مِن الصادِقين)، فيقول المرسل: (مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلهِ) (الأنعام/ 57)، (لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) (الأنعام/ 58)، ما عندنا ما تريدون منّا من الهلاك ولو حصل ذلك لانتهى الأمر ولا حاجة إلى الإنذار والأعذار، وإنّ الله لو شاء لانتصر منكم ولأهلككم في لحظة.

ويستمر النضال ويستمر التهديد من أصحاب القدرة الزائفة الذين يتصوّرون أنفسهم قد ملكوا السماء والهواء ويهدّدون النبيّ الناصح بالطرد والرجم، وهو أوقح تهديد، تهديد فيه نوع من التحقير والتوهين (قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) (الشعراء/ 116). وهكذا وبكلّ جرأة وصلافة يهدّدون نبيّهم بل يريدون رجمه بالحجارة إذا ما استمر في دعوته ومحاولة هدايتهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.

ارسال التعليق

Top